وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ﴿ابراهيم: ٣٣﴾
إذا تابعنا حركة الشمس والقمر نجد أنها تشرُق (بداية) ثم تغرُب (نهاية) ثم تكرار وكذلك
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ ﴿يوسف: ٤٧﴾”
زراعة (بداية) ثم حصاد (نهاية) ثم تكرار وهذا يُسمي عمل دائب “ دَأَبًا”.
ولو قارنَّا الصلاة كما تُقام فنجد أن لها بداية ثم نهاية ثم تكرار, إذن الصلاة دائبة, والله سبحانه دقيق في الألفاظ
الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ﴿المعارج: ٢٣﴾”
إذن لابد من إعادة النظر فى فَهْم ما هي الصلاة.
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ ﴿المائدة: ٥٨﴾
في الآية السابقة نجد أنه يُناديَ إلي الصلاة “نَادَيْتُمْ “, ولو قارنَّا آيات أخرى في كل القرآن نجد أن معني “نَادَىٰ” هو الخطاب الخاص
“إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ﴿مريم: ٣﴾”، “ وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ﴿مريم: ٥٢﴾” وغيرها من الآيات.
ولن تجد أي آية في القرآن تَربِط الصلاة بالآذان (حسب التراث), لأن الآذان هو الخطاب العام.
فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ﴿يوسف: ٧٠﴾
وهنا لابد أن يكون الخطاب عام فهو إعلان للجميع بأن السِّقَايَةَ قد سُرِقت ثم أُكتَُشفت فِي رَحْلِ أَخِيهِ؟ وغيرها من الآيات.
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ۚ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ ۚ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿التوبة:٦١﴾
فكان النبي يُخصِّص جزءاً من وقته ليَستمِع لكل فئات الناس فهو “عام” للجميع.
ومنها عضو السَّمع “الأُذُن” لأنه يتأثر بكل الذي يُحْدِث تردُّد صوتي فهو أيضا عام.
وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴿الأعراف: ٤٤﴾
في هذه الآية نجد خطاب خاص لأصحاب النار “وَنَادَىٰ” ، أما الجزء الثاني فهو خطاب عام للجميع “فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ”.
والخلط بين “الخاص” و “العام” أمر في غاية الخطورة , فعندما يَخلِط المرء مال عام مع الخاص يُسمي هذا العمل (سَرِقة), كذلك عندما يحدث خلط فى العلاقة الخاصة بين الزوجين من الخاص إلى العام يُسمى هذا العمل سِفاح “مُسَافِحِينَ”.
إذن كيف تكون الصَّلاة خاصَّة؟
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿الجمعة: ٩﴾
وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴿الجمعة: ١١﴾
أولا .. الخطاب موجه إلى “الَّذِينَ آمَنُوا” أى الباحثين عن الحقيقة ودعوتهم إلى الصلاة فى جزء “ مِن” وقت “يَوْمِ “ التجمُّع أو التسوُّق “الْبَيْعَ ، التِّجَارَةِ” .
ثانيا .. “ نُودِيَ” نداء خاص أى كل يبحث عن التخصُّص المناسب له ، وأن الصَّلاة فيها “خَيْرٌ” ، أى يكون فيها خيارات كثيرة أو تخصصات كثيرة
“وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿القصص: ٦٨﴾” ، وفيها علم “إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ” .
ثالثا .. هنا أمر ونهى “فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّه“ ، “وَذَرُوا الْبَيْعَ” وجاءت بصيغة الجمع ، فحتى يكون هناك خير أى خيارات كثيرة وتخصصات كثيرة لابد من “فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ” وفى نفس الوقت ترك “ذَرُوا الْبَيْعَ” وهنا الذرو بمعنى أنه أمر لا وزن له ولا قيمة فى إقامة الحضارات “تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ” ، والله تعالى وصفه ب“اللَّهْوِ” من غير العلم يكون بلا فائدة , وحتى “ وَمِنَ التِّجَارَةِ” المُتَعارف عليها إلى أمور أفضل فيه فُرَص الأختيار “ خَيْرُ “ فيكون الرزق “الرَّازِقِينَ” والرزق يشمل الأقتصاد كله ، فيكون من خلال التنوُّع فى التخصصات التى تحتاجها المجتمعات ، من إقامة وتجديد وتحديث البنية التحتية من طرق وكبارى ومبانى وزراعة ورى وارتباطها بالفلك ومواصلات بكل أشكالها برا وبحرا وجوا وهكذا فى جميع مجالات الحياة ..
ومن هنا نفهم الآية الكريمة “فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ﴿٤﴾ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴿٥﴾ “ ، فهم مُصلِّين ولكن الله تعالى تَوعدَّهم بالويل ، كيف ؟ فعندما يحدث تقصير وإهمال فى صلاتهم أى تخصُّصهم وخاصة لو كان فيه إذىً للآخرين أو أذىً للمجتمع ككل ، كموت المريض نتيجة تقصير الطبيب فالله يتوعَّده بالويل ، و عندما تنهار المبانى والكبارى وتغرق الطرق عندما تسقط الأمطار لعدم وجود صرف وذلك نتيجة تقصير المهندس فالله تعالى يتوعَّده بالويل ، كذلك عندما يُصبح التلاميذ جهلة نتيجة تقصير المُعلِّم فالله تعالى يتوعَّده بالويل ..
وارتبطت الصلاة أيضا بالإقامة
فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴿الكهف: ٧٧﴾
عملية إقامة الجدار تعني تجديده وتقويته ليبقي حتي يؤدي وظيفته وهو (الحفاظ علي الكنز), فإقامة الصلاة بالعلم هى عملية التَّجديد والتَّحديث فى جميع التخصُّصات حتي تلائم التطوُّر وتدعِّمه.
لكن واضح من الآيات أن هذا الأمر كان صعب تقَبُّله بسهولة لأن رد فعلهم كان “وَتَرَكُوكَ” أى تركوا الرسالة ، “قَائِمًا” أى أن الرسالة وحدها هى التى تقوم بعملية التحديث والتجديد ، فمن يفهمها حقا ويتبعها هو من يكون قائم ، أما هؤلاء فاستمروا فى الأمور التقليدية
“ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴿المائدة: ١٠٤﴾” وهذا ما يحدث إلى يومنا هذا !!!
كذلك نقطة مهمة أن الله تعالى وضَّح لنا الأوقات التى يكون فيها إمكانية البحث والدراسة والعلم وهى صَلَاةِ الْفَجْرِ (الفترة الصباحية) و صَلَاةِ الْعِشَاءِ (الفترة المسائية). ويستمر الإنسان فى تجديد علمه مدى الحياة ..
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ۚ مِّن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ۚ﴿٥٨﴾” .
لذلك كان المطلوب من الرسول الصبر ولا يطرد الذين يعملون بحثا عن الرزق من بداية اليوم إلى نهايته
“وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ ﴿الكهف:٢٨﴾” ، “ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴿الأنعام: ٥٢﴾” .
ولكن من يأتى ويقول أن هناك آية تدل أن الصلاة على مدار اليوم
“أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴿الإسراء: ٧٨﴾” ،
ولكن هذه الآية خاصَّة بالنبى “أَقِمِ” أى الإستمرار فى البحث والدراسة ليل ونهار والقيام بعمليَّة التَّجديد والتَّحديث ، وكما نجده فى سورة المزمل
“إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ ۚ” ، فمن يقوم مع الرسول هنا “وَطَائِفَةٌ “ فهى مجموعة علميَّة متخصِّصة فى علم الفلك ، أما الآخرون
“ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ” ، لكن فى النهاية أن المطلوب من الجميع “أَقِيمُوا الصَّلَاةَ” هو تطبيق عملية التَّجديد والتَّحديث “كل في تخصصه” من خلال الإزالة “وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۖ” ثم التَّجديد ، وهذا الأمر يحتاج من الجميع بذل الجهد والعمل التطوعى “وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ” ، و سوف يعود بالنفع والرخاء على الجميع
“وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا” .
فالصلاة دائمة ، فالمطلوب عملية التطوير والتحديث فى جميع التخصُّصات والمجالات ..
فالطبيب يظل طبيب والمنهدس يظل مهندس مع التَّجديد والتَّحديث حتى لو كان نائما .. والله أعلم .